فصل: فَصْلٌ: في النِّيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: في النِّيَّةِ:

وَمِنْهَا النِّيَّةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي حَلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ أَوْ التَّطْلِيقِ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ الطَّلَاقُ، أَوْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ مُشَدَّدًا، سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ صَرِيحًا؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ مَكْشُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَ السَّامِعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَرَّحَ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ أَيْ: كَشَفَهُ وَأَوْضَحَهُ، وَسُمِّيَ الْبِنَاءُ الْمُشْرِفُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ ظَاهِرَةُ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ إذْ النِّيَّةُ عَمَلُهَا فِي تَعْيِينِ الْمُبْهَمِ وَلَا إبْهَامَ فِيهَا.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} شَرَعَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} مُطْلَقًا.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، حَكَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِزَوَالِ الْحِلِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ وَرَوَيْنَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ؟.
وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا لَسَأَلَهُ وَلَا مُرَاجَعَةَ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ الطَّلَاقُ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ.
وَكَذَا لَا يَسَعُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُصَدِّقَهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَصْلًا فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَقَالَ: نَوَيْتُ الطَّلَاقَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَيْدٍ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَقِيقَةً فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَجَازَ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ، وَلَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يَقَعْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِنْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ أَيْضًا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ أَطْلَقُ مِنْ امْرَأَةِ فُلَانٍ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا حَتَّى لَا يَجِبُ الْحَدُّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وُقِفَ عَلَى النِّيَّةِ إلَّا إذَا خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ مُطْلَقَةٌ وَخَفَّفَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْطِلَاقَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي قَيْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحَبْسِ فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فَوَقَفَ عَلَى النِّيَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُونِي طَالِقًا أَوْ أَطْلِقِي.
قَالَ: أَرَاهُ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُونِي لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ كَوْنِهَا طَالِقًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كُنْ فَيَكُونُ} إنَّ قَوْلَهُ: كُنْ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ التَّكْوِينِ وَلَا تَكُونُ طَالِقًا إلَّا بِالطَّلَاقِ وَكَذَا قَوْلُهُ: اُطْلُقِي وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُونِي حُرَّةً أَوْ عَتْقَى وَلَوْ قَالَ: يَا مُطَلَّقَةُ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً وَلَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً إلَّا بِالتَّطْلِيقِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الشَّتْمَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى فِيمَا هُوَ وَصْفٌ أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا فَكَانَ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِمِثْلِهِ الشَّتْمُ وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ، فَقَالَ: عَنَيْتُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ دِينَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مُطَلَّقَتَهُ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَالنِّيَّةُ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا فَصُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ فَانْصَرَفَ الْوَصْفُ إلَى كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً لَهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَدْ طَلَّقْتُكِ يَقَعُ ثِنْتَانِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْوُقُوعِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِالثَّانِي الْإِخْبَارَ عَنْ الْأَوَّلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ فِي إنْشَاءِ الطَّلَاقِ فَصَرْفُهَا إلَى الْإِخْبَارِ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ صِيغَتَهَا صِيغَةُ الْإِخْبَارِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا أَوْ قَالَ قُلْتُ: هِيَ طَالِقٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ انْصَرَفَ إلَى الْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِخْبَارِ.
وَأَمَّا الطَّلَاقُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي فَارِسِيٍّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: بهشتم إنْ زن، أَوْ قَالَ: إنْ زن بهشتم، أَوْ قَالَ: بهشتم لَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ خَلَّيْتُ، وَقَوْلُهُ: خَلَّيْتُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَكَذَا هَذَا اللَّفْظُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ: خَلَّيْتُ يَقَعُ بَائِنًا، وَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ يَقَعُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي لُغَتِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ.
وَالثَّانِي قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: خَلَّيْتُ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَفِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى لَا يُدَيَّنَ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى لَوْ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أُقِيمَ مَقَامَ التَّخْلِيَةِ فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ التَّخْلِيَةِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: إنْ نَوَى بَائِنًا يَكُونُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ قَالَ: خَلَّيْتُ وَنَوَى الْبَائِنَ أَوْ الثَّلَاثَ وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ يَكُونُ وَاحِدَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ إلَّا أَنَّ هاهنا يَكُونُ وَاحِدَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بِخِلَافِ لَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ لِمَا بَيَّنَّا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ: بهشتم إنْ زن، أَوْ قَالَ: إنْ زن بهشتم هِيَ طَالِقٌ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ وَيَكُونُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَالَطَ الْعَجَمَ وَدَخَلَ جُرْجَانَ فَعَرَفَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي لُغَتِهِمْ صَرِيحٌ قَالَ: وَإِنْ قَالَ: بهشتم، وَلَمْ يَقُلْ: إنْ زن، فَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ فِي حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ أَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يُدَيَّنُ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ بهشتم خَلَّيْتُ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ إضَافَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَلَا إلَى الزَّوْجَةِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِقَرِينَةِ نِيَّةٍ أَوْ بِدَلَالَةِ حَالٍ، وَحَالُ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الظَّاهِرِ قَالَ: وَإِنْ نَوَى بَائِنًا فَبَائِنٌ.
وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي الْفَارِسِيَّةِ فَمَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبَيْنُونَةِ وَالثَّلَاثِ كَلَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ فَجَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ- فِي قَوْلِهِ: بهشتم إنْ زن، أَوْ إنْ زن بهشتم- إنَّ هَذَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ.
وَقَالَ- فِي قَوْلِهِ: بهشتم إنَّهُ- إنْ كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ وَلَا يُدَيَّنُ؛ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ الرِّضَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ: أَنْتِ مُخَلَّاةٌ أَوْ قَدْ خَلَّيْتُكِ.
وَقَالَ زُفَرُ: إذَا قَالَ بهشتم وَنَوَى الطَّلَاقَ بَائِنًا أَوْ غَيْرَ بَائِنٍ فَهُوَ بَائِنٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَاثْنَتَانِ وَأُجْرِي هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَجْرَى قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ، وَلَوْ قَالَ: خَلَّيْتُكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ نَوَى الْبَيْنُونَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ يَكُونُ اثْنَتَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ فَكَذَا هَذَا.
هَذَا مَا نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا هَذَا فِي الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهَا لَفْظٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ فَذَلِكَ اللَّفْظُ صَرِيحٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا: دها كنم أَوْ فِي عُرْفِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ بهشتم؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَمَا كَانَ فِي الْفَارِسِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَفِي غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ الْفَارِسِيَّةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ كِنَايَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الْإِبَانَةَ فَقَدْ لَغَتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْبَيْنُونَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا نَوَى إبَانَتَهَا لِلْحَالِ مُعَجَّلًا فَقَدْ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا لَغَتْ نِيَّتُهُ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الطَّلَاقِ كَالضَّارِبِ وَنَحْوِهِ، يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ الْمَعَانِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الضَّارِبُ بِلَا ضَرْبٍ وَالْقَاتِلُ بِلَا قَتْلٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّالِقُ بِلَا طَلَاقٍ؟ فَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ مِنْهُ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الطَّلَاقِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ، وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَامْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِلْمُطَلِّقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ عِنْدَ مُطْلَقِ التَّطْلِيقِ إلَّا بِمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: اسْقِينِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ نَوَى الثَّلَاثَ، وَقَوْلُهُ: طَالِقٌ لَا يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ طَالِقٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ، وَذَاتُهَا وَاحِدٌ، وَالْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ ثَبَتَ مُقْتَضَى الطَّالِقِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا؛ لِأَنَّ الطَّالِقَ بِدُونِ الطَّلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ كَالضَّارِبِ بِدُونِ الضَّرْبِ، وَهَذَا الْمُقْتَضَى غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ عَدَمًا فِيمَا وَرَاءَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ.
وَذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ ضَرُورَةً أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَكَانَ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ قَبُولِ النِّيَّةِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ مُقْتَضَاهُ الْبَيْنُونَةُ، وَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ فَكَانَ اسْمُ الْبَائِنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ كَاسْمِ الْجَالِسِ؛ يُقَالُ: جَلَسَ أَيْ: قَعَدَ وَيُقَالُ جَلَسَ أَيْ: أَتَى نَجْدًا فَكَانَ الْجَالِسُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْجُلُوسُ، فَكَذَا الْبَائِنُ وَالِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ مِنْهُ إلَّا بِمُعَيَّنٍ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ عَيَّنَ إحْدَى نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: طَالِقٌ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الطَّلَاقِ، وَالطَّلَاقُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَنَوَّعُ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْقَيْدِ، وَالْقَيْدُ نَوْعٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ صَارَ مَذْكُورًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ قَيْدِ النِّكَاحِ؛ وَالْقَيْدُ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ وَاحِدٌ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ وَاحِدًا ضَرُورَةً فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى الْعَدَدَ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الثَّلَاثُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ لِلتَّأْكِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ يَقْتَضِي الطَّلَاقَ فَكَانَ قَوْلُهُ: طَلَاقًا تَنْصِيصًا عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الطَّالِقُ فَكَانَ تَأْكِيدًا كَمَا يُقَالُ: قُمْت قِيَامًا وَأَكَلْت أَكْلًا، فَلَا يُفِيدُ إلَّا مَا أَفَادَهُ الْمُؤَكِّدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَوْلَهُ:- طَلَاقًا- مَصْدَرٌ فَيَحْتَمِلُ كُلَّ جِنْسِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} وَصَفَ الثُّبُورَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِالْكَثْرَةِ، وَالثَّلَاثُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهَاهُنَا أَمْكَنَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ نَوَى اثْنَتَيْنِ لَا عَلَى التَّقْسِيمِ فِي قَوْلِهِ: طَالِقٌ طَلَاقًا لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ وَاحِدٌ فلابد مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ، ثُمَّ الشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ وَاحِدًا مِنْ النَّوْعِ كَزَيْدٍ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ كَالْإِنْسَانِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلَا تُوجَدُ فِي الِاثْنَيْنِ لَا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَلَا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ فَكَانَ عَدَدًا مَحْضًا فَلَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظَةُ الْوَاحِدِ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَكُلُّ جِنْسٍ مِنْ الْأَفْعَالِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا أَلَا تَرَى أَنَّكَ مَتَى عَدَّدْتَ الْأَجْنَاسَ تَعُدُّهُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ الْأَجْنَاسِ، كَالضَّرْبِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْفِعْلِ.
وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ عَلَى التَّقْسِيمِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا نَذَرَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يُقَالُ: هَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ: مَضْرُوبُهُ وَهَذَا عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَصْدَرِ لَلَغَا كَلَامُهُ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ لَصَحَّ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَتَّبِعُ الْمَذْكُورَ، وَالْمَذْكُورَ يُلَازِمُ الْجِنْسَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِدُونِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ الطَّالِقُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ: أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهٌ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ،.
فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، فَلَا يُتَبَيَّنُ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَلَاقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ الطَّلَاقُ.
وَحُكِيَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ وَإِنْ تَخْرَقِي يَا هِنْدُ فَالْخُرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرَقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ قَالَ: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَلَاقٌ، وَصَارَ قَوْلُهُ: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا غَيْرَ مُتَعَلَّقٍ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ قَالَ: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثًا طَلَقَتْ ثَلَاثًا، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ هِيَ فِي الْحَالِ تَفْسِيرُ الْمُوقَعَ فَاسْتَحْسَنَ الْكِسَائِيُّ جَوَابَهُ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ وَنَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ وَعَرَّفَهُ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ جِنْسِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْمِلْكِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامه فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِقَرِينَةٍ تَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَا عَلَى التَّقْسِيمِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ صِيغَتُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ لَازِمًا، وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ مَحْضٌ لَا تُوجَدُ فِيهِ بِوَجْهٍ فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلتَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الثَّلَاثَ مِنْ حَيْثُ التَّوْحِيدُ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْمِلْكِ، وَكُلُّ الْجِنْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ وَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَرَّفَ الْمَصْدَرَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ الْمَوْضُوعَةِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لَكِنَّهُ انْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مَحْظُورٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ الْمَحْظُورَ فَانْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِقَرِينَةٍ وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ أَوْ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ إنْ نَوَى كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ لِدَلَالَةِ الْحَالِ كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَبِقَوْلِي: الطَّلَاقُ أَوْ طَلَاقًا أُخْرَى صُدِّقَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ إيقَاعًا تَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ أَوْ طَلَاقٌ يَقَعُ أَيْضًا، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ حَتَّى لَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَصِيرُ مَذْكُورًا فِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَصِّلِي طَلَاقًا، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ فَكَانَ مَعْنَى التَّوَحُّدِ فِيهِ مُنْعَدِمًا أَصْلًا وَرَأْسًا؛ فَلَا يَحْتَمِلُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ قَالَ لَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: قَدْ جَعَلْتُ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ الَّتِي أَوْقَعْتُهَا عَلَيْك ثَلَاثًا أَوْ قَالَ قَدْ جَعَلْتُهَا بَائِنًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ ثَلَاثًا وَيَكُونُ بَائِنًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَلَا بَائِنًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ بَائِنًا وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ شَرْعًا بِصِفَةٍ لَا يُحْتَمَلُ التَّغْيِيرُ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ يَكُونُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً لَا تَصِيرُ وَاحِدَةً؟ وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَجَعَلَهَا رَجْعِيَّةً لَا تَصِيرُ رَجْعِيَّةً لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّطْلِيقَةَ الرَّجْعِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَهَا الْبَيْنُونَةُ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَصِيرُ بَائِنَةً فَجَازَ تَعْجِيلُ الْبَيْنُونَةِ فِيهَا أَيْضًا،.
فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَصِيرَ ثَلَاثًا أَبَدًا فَلَغَا قَوْلَهُ: جَعَلْتُهَا ثَلَاثًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ هَذِهِ التَّطْلِيقَةِ بَائِنَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَمْلِكُ إلْحَاقَهَا بِالْبَائِنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبَانَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَمَعْنَى جَعْلِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثًا أَنَّهُ أَلْحَقَ بِهَا تَطْلِيقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاحِدَ ثَلَاثًا.